سورة النساء - تفسير تفسير الرازي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (النساء)


        


{وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآَتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (20) وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (21)}
فيه مسائل:
المسألة الأولى: أنه تعالى في الآية الأولى لما أذن في مضارة الزوجات إذا أتين بفاحشة، بين في هذه الآية تحريم المضارة في غير حال الفاحشة فقال: {وَإِنْ أَرَدْتُّمُ استبدال زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ} روي أن الرجل منهم إذا مال إلى التزوج بامرأة أخرى رمى زوجة نفسه بالفاحشة حتى يلجئها إلى الافتداء منه بما أعطاها ليصرفه إلى تزوج المرأة التي يريدها قال تعالى: {وَإِنْ أَرَدْتُّمُ استبدال زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ} الآية والقنطار المال العظيم، وقد مر تفسيره في قوله تعالى: {والقناطير المقنطرة مِنَ الذهب والفضة} [آل عمران: 14].
المسألة السادسة: قالوا: الآية تدل على جواز المغالاة في المهر، روي أن عمر رضي الله عنه قال على المنبر: ألا لا تغالوا في مهور نسائكم، فقامت امرأة فقالت: يا ابن الخطاب الله يعطينا وأنت تمنع وتلت هذه الآية، فقال عمر: كل الناس أفقه من عمر، ورجع عن كراهة المغالاة. وعندي أن الآية لا دلالة فيها على جواز المغالاة لأن قوله: {وآتيتم إحداهن قنطارا} لا يدل على جواز إيتاء القنطار كما أن قوله: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا الِهَةٌ إِلاَّ الله لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22] لا يدل على حصول الآلهة، والحاصل أنه لا يلزم من جعل الشيء شرطا لشيء آخر كون ذلك الشرط في نفسه جائز الوقوع، وقال عليه الصلاة والسلام: «من قتل له قتيل فأهله بين خيرتين».
ولم يلزم منه جواز القتل، وقد يقول الرجل: لو كان الاله جسما لكان محدثا، وهذا حق، ولا يلزم منه ان قولنا: الاله جسم حق.
المسألة الثالثة: هذه الآية يدخل فيها ما اذا آتاها مهرها وما إذا لم يؤتها، وذلك لأنه أوقع العقد على ذلك الصداق في حكم الله، فلا فرق فيه بين ما اذا آتاها الصداق حساً، وبين ما إذا لم يؤتها.
المسألة الرابعة: احتج أبو بكر الرازي بهذه الآية على أن الخلوة الصحيحة تقرر المهر، قال وذلك لأن الله تعالى منع الزوج من أن يأخذ منها شيئا من المهر، وهذا المنع مطلق ترك العمل به قبل الخلوة، فوجب أن يبقى معمولا به بعد الخلوة قال: ولا يجوز أن يقال انه مخصوص بقوله تعالى: {وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237] وذلك لأن الصحابة اختلفوا في تفسير المسيس فقال علي وعمر: المراد من المسيس الخلوة، وقال عبدالله: هو الجماع، واذا صار مختلفا فيه امتنع جعله مخصصا لعموم هذه الآية.
والجواب: ان هذه الآية المذكورة هاهنا مختصة بما بعد الجماع بدليل قوله تعالى: {وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أفضى بَعْضُكُمْ إلى بَعْضٍ} وإفضاء بعضهم إلى البعض هو الجماع على قول أكثر المفسرين وسنقيم الدلائل على صحة ذلك.
المسألة الخامسة: اعلم أن سوء العشرة اما أن يكون من قبل الزوج، وإما أن يكون من قبل الزوجة، فان كان من قبل الزوج كره له أنه يأخذ شيئا من مهرها لأن قوله تعالى: {وَإِنْ أَرَدْتُّمُ استبدال زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ وَءاتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئاً} صريح في أن النشوز إذا كان من قبله فانه يكون منهيا عن أن يأخذ من مهرها شيئا، ثم ان وقعت المخالعة ملك الزوج بدل الخلع، كما ان البيع وقت النداء منهي عنه، ثم انه يفيد الملك، واذا كان النشوز من قبل المرأة فهاهنا يحل أخذ بدل الخلع؛ لقوله تعالى: {وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَا ءاتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيّنَةٍ} [النساء: 19].
ثم قال تعالى: {أَتَأْخُذُونَهُ بهتانا وَإِثْماً مُّبِيناً} وفيه مسائل:
المسألة الأولى: البهتان في اللغة الكذب الذي يواجه الإنسان به صاحبه على جهة المكابرة، وأصله من بهت الرجل إذا تحير، فالبهتان كذب يحير الإنسان لعظمته، ثم جعل كل باطل يتحير من بطلانه {بهتانا}، ومنه الحديث: «إذا واجهت أخاك بما ليس فيه فقد بهته».
المسألة الثانية: في أنه لم انتصب قوله: {بهتانا} وجوه:
الأول: قال الزجاج: البهتان هاهنا مصدر وضع موضع الحال، والمعنى: أتأخذونه مباهتين وآثمين.
الثاني: قال صاحب الكشاف: يحتمل أنه انتصب لأنه مفعول له وإن لم يكن غرضاً في الحقيقة، كقولك: قعد عن القتال جبنا.
الثالث: انتصب بنزع الخافض، أي ببهتان.
الرابع: فيه اضمار تقديره: تصيبون به بهتانا وإثما.
المسألة الثالثة: في تسمية هذا الأخذ بهتانا وجوه:
الأول: أنه تعالى فرض لها ذلك المهر فمن استرده كان كأنه يقول: ليس ذلك بفرض فيكون بهتانا.
الثاني: أنه عند العقد تكفل بتسليم ذلك المهر اليها، وأن لا يأخذه منها، فاذا أخذه صار ذلك القول الأول بهتانا.
الثالث: أنا ذكرنا أنه كان من دأبهم أنهم إذا أرادوا تطليق الزوجة رموها بفاحشة حتى تخاف وتشتري نفسها منه بذلك المهر، فلما كان هذا الأمر واقعا على هذا الوجه في الأغلب الأكثر، جعل كأن أحدهما هو الآخر.
الرابع: أنه تعالى ذكر في الآية السابقة: {وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَا ءاتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيّنَةٍ} والظاهر من حال المسلم أنه لا يخالف أمر الله، فاذا أخذ منها شيئاً أشعر ذلك بأنها قد أتت بفاحشة مبينة، فاذا لم يكن الأمر كذلك في الحقيقة صح وصف ذلك الأخذ بأنه بهتان، من حيث أنه يدل على إتيانها بالفاحشة مع أن الأمر ليس كذلك. وفيه تقرير آخر وهو أن أخذ المال طعن في ذاتها وأخذ لمالها، فهو بهتان من وجه وظلم من وجه آخر، فكان ذلك معصية عظيمة من أمهات الكبائر.
الخامس: أن عقاب البهتان والاثم المبين كان معلوماً عندهم فقوله: {أَتَأْخُذُونَهُ بهتانا} معناه أتأخذون عقاب البهتان فهو كقوله: {إِنَّ الذين يَأْكُلُونَ أموال اليتامى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً} [النساء: 10].
المسألة الرابعة: قوله: {أَتَأْخُذُونَهُ} استفهام على معنى الانكار والاعظام، والمعنى أن الظاهر أنكم لا تفعلون مثل هذا الفعل مع ظهور قبحه في الشرع والعقل.
واعلم أنه تعالى ذكر في علة هذا المنع أمورا: أحدهما: أن هذا الأخذ يتضمن نسبتها إلى الفاحشة المبينة، فكان ذلك بهتانا والبهتان من أمهات الكبائر.
وثانيها: أنه إثم مبين لأن هذا المال حقها فمن ضيق الأمر عليها ليتوسل بذلك التشديد والتضييق وهو ظلم، إلى أخذ المال وهو ظلم آخر، فلا شك أن التوسل بظلم إلى ظلم آخر يكون إثما مبينا.
وثالثها: قوله تعالى: {وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أفضى بَعْضُكُمْ إلى بَعْضٍ} وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: أصل أفضى من الفضاء الذي هو السعة يقال: فضا يفضو وفضاء إذا اتسع، قال الليث: أفضى فلان إلى فلان، أي وصل اليه، وأصله أنه صار في فرجته وفضائه، وللمفسرين في الافضاء في هذه الآية قولان:
أحدهما: أن الافضاء هاهنا كناية عن الجماع وهو قول ابن عباس ومجاهد والسدي واختيار الزجاج وابن قتيبة ومذهب الشافعي؛ لأن عنده الزوج إذا طلق قبل المسيس فله أن يرجع في نصف المهر، وإن خلا بها.
والقول الثاني: في الافضاء أن يخلو بها وإن لم يجامعها، قال الكلبي: الافضاء أن يكون معها في لحاف واحد، جامعها أو لم يجامعها، وهذا القول اختيار الفراء ومذهب أبي حنيفة رضي الله عنه. لأن الخلوة الصحيحة تقرر المهر.
واعلم أن القول الأول أولى، ويدل عليه وجوه:
الأول: أن الليث قال: أفضى فلان إلى فلانة أي صار في فرجتها وفضائها، ومعلوم أن هذا المعنى إنما يحصل في الحقيقة عند الجماع، أما في غير وقت الجماع فهذا غير حاصل.
الثاني: أنه تعالى ذكر هذا في معرض التعجب، فقال: {وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أفضى بَعْضُكُمْ إلى بَعْضٍ} والتعجب إنما يتم إذا كان هذا الافضاء سببا قويا في حصول الألفة والمحبة، وهو الجماع لا مجرد الخلوة، فوجب حمل الافضاء عليه.
الثالث: وهو أن الافضاء اليها لابد وأن يكون مفسرا بفعل منه ينتهي اليه، لأن كلمة إلى لانتهاء الغاية، ومجرد الخلوة ليس كذلك، لأن عند الخلوة المحضة لم يصل فعل من أفعال واحد منهما إلى الآخر، فامتنع تفسير قوله: {أفضى بَعْضُكُمْ إلى بَعْضٍ} بمجرد الخلوة.
فان قيل: فاذا اضطجعا في لحاف واحد وتلامسا فقد حصل الافضاء من بعضهم إلى بعض فوجب أن يكون ذلك كافيا. وأنتم لا تقولون به.
قلنا: القائل قائلان، قائل يقول: المهر لا يتقرر إلا بالجماع، وآخر: انه يتقرر بمجرد الخلوة وليس في الأمة أحد يقول إنه يتقرر بالملامسة والمضاجعة، فكان هذا القول باطلا بالاجماع، فلم يبق في تفسير إفضاء بعضهم إلى بعض إلا أحد أمرين: إما الجماع، وإما الخلوة، والقول بالخلوة باطل لما بيناه، فبقي أن المراد بالافضاء هو الجماع.
الرابع: أن المهر قبل الخلوة ما كان متقرراً، والشرع قد علق تقرره على إفضاء البعض إلى البعض، وقد اشتبه الأمر في أن المراد بهذا الافضاء، هو الخلوة أو الجماع، وإذا وقع الشك وجب بقاء ما كان على ما كان، وهو عدم التقرير، فبهذه الوجوه ظهر ترجيح مذهب الشافعي والله أعلم.
المسألة الثانية: قوله: {وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أفضى بَعْضُكُمْ إلى بَعْضٍ} كلمة تعجب، أي لأي وجه ولأي معنى تفعلون هذا؟ فانها بذلت نفسها لك وجعلت ذاتها لذتك وتمتعك، وحصلت الألفة التامة والمودة الكاملة بينكما، فكيف يليق بالعاقل أن يسترد منها شيئاً بذله لها بطبية نفسه؟ إن هذا لا يليق ألبتة بمن له طبع سليم وذوق مستقيم.
الوجه الرابع: من الوجوه التي جعلها الله مانعا من استرداد المهر قوله: {وَأَخَذْنَ مِنكُم ميثاقا غَلِيظاً} في تفسير هذا الميثاق الغليظ وجوه:
الأول: قال السدي وعكرمة والفراء: هو قولهم زوجتك هذه المرأة على ما أخذه الله للنساء على الرجال، من إمساك بمعروف أو تسريح باحسان، ومعلوم أنه إذا ألجأها إلى أن بذلت المهر فما سرحها بالاحسان، بل سرحها بالاساءة.
الثاني: قال ابن عباس ومجاهد: الميثاق الغليظ كلمة النكاح المعقودة على الصداق، وتلك الكلمة كلمة تستحل بها فروج النساء، قال صلى الله عليه وسلم: «اتقوا الله في النساء فانكم أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله».
الثالث: قوله: {وَأَخَذْنَ مِنكُم ميثاقا غَلِيظاً} أي أخذن منكم بسبب إفضاء بعضكم إلى بعض ميثاقا غليظا، وصفه بالغلظة لقوته وعظمته، وقالوا: صحبة عشرين يوما قرابة، فكيف بما يجري بين الزوجين من الاتحاد والامتزاج.
النوع الخامس: من الأمور التي كلف الله تعالى بها في هذه الآية من الأمور المتعلقة بالنساء.


{وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آَبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا (22)}
فيه مسائل:
المسألة الأولى: قال ابن عباس وجمهور المفسرين: كان أهل الجاهلية يتزوجون بأزواج آبائهم فنهاهم الله بهذه الآية عن ذلك الفعل.
المسألة الثانية: قال أبو حنيفة رضي الله عنه: يحرم على الرجل أن يتزوج بمزنية أبيه، وقال الشافعي رحمة الله عليه: لا يحرم احتج أبو حنيفة بهذه الآية فقال: إنه تعالى نهى الرجل أن ينكح منكوحة أبيه، والنكاح عبارة عن الوطء فكان هذا نهيا عن نكاح موطوءة أبيه، إنما قلنا: إن النكاح عبارة عن الوطء لوجوه:
الأول: قوله تعالى: {فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حتى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230] أضاف هذا النكاح إلى الزوج، والنكاح المضاف إلى الزوج هو الوطء لا العقد، لأن الإنسان لا يمكنه أن يتزوج بزوجة نفسه لأن تحصيل الحاصل محال، ولأنه لو كان المراد بالنكاح في هذه الآية هوالعقد لوجب أن يحصل التحليل بمجرد العقد وحيث لم يحصل علمنا أن المراد من النكاح في هذه الآية ليس هو العقد، فتعين أن يكون هو الوطء لأنه لا قائل بالفرق.
الثاني: قوله تعالى: {وابتلوا اليتامى حتى إِذَا بَلَغُواْ النّكَاحَ} [النساء: 6] والمراد من النكاح هاهنا الوطء لا العقد، لأن أهلية العقد كانت حاصلة أبدا.
الثالث: قوله تعالى: {الزانى لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً} [النور: 3] فلو كان المراد هاهنا العقد لزم الكذب.
الرابع: قوله عليه الصلاة والسلام: «ناكح اليد ملعون».
ومعلوم أن المراد ليس هو العقد بل هو الوطء. فثبت بهذه الوجوه أن النكاح عبارة عن الوطء، فلزم أن يكون قوله تعالى: {وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ ءابَاؤُكُمْ} أي: ولا تنكحوا ما وطئهن آباؤكم، وهذا يدخل فيه المنكوحة والمزنية، لا يقال: كما أن لفظ النكاح ورد بمعنى الوطء فقد ورد أيضاً بمعنى العقد قال تعالى: {وَأَنْكِحُواْ الأيامى مِنْكُمْ} [النور: 32] {فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ مّنَ النساء} [النساء: 3] {إِذَا نَكَحْتُمُ المؤمنات} [الأحزاب: 49] وقوله عليه الصلاة والسلام: «ولدت من نكاح ولم أولد من سفاح» فلم كان حمل اللفظ على الوطء أولى من حمله على العقد؟
أجابوا عنه من ثلاثة أوجه: الأول: ما ذهب اليه الكرخي وهو أن لفظ النكاح حقيقة في الوطء مجاز في العقد، بدليل أن لفظ النكاح في أصل اللغة عبارة عن الضم، ومعنى الضم حاصل في الوطء لا في العقد، فكان لفظ النكاح حقيقة في الوطء. ثم إن العقد سمي بهذا الاسم لأن العقد لما كان سبباً له أطلق اسم المسبب على السبب، كما أن العقيقة اسم للشعر الذي يكون على رأس الصبي حال ما يولد، ثم تسمى الشاة التي تذبح عند حلق ذلك الشعر عقيقة فكذا هاهنا.
واعلم أنه كان مذهب الكرخي أنه لا يجوز استعمال اللفظ الواحد بالاعتبار الواحد في حقيقته ومجازه معا، فلا جرم كان يقول: المستفاد من هذه الآية حكم الوطء، أما حكم العقد فانه غير مستفاد من هذه الآية، بل من طريق آخر ودليل آخر.
الوجه الثاني: أن من الناس من ذهب إلى أن اللفظ المشترك يجوز استعماله في مفهوميه معا فهذا القائل قال: دلت الآيات المذكورة على أن لفظ النكاح حقيقة في الوطء وفي العقد معا، فكان قوله: {وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ ءابَاؤُكُمْ} نهيا عن الوطء وعن العقد معا، حملا للفظ على كلا مفهوميه.
الوجه الثالث: في الاستدلال، وهو قول من يقول: اللفظ المشترك لا يجوز استعماله في مفهوميه معا، قالوا: ثبت بالدلائل المذكورة أن لفظ النكاح قد استعمل في القرآن في الوطء تارة وفي العقد أخرى، والقول بالاشتراك والمجاز خلاف الأصل، ولا بد من جعله حقيقة في القدر المشترك بينهما وهو معنى الضم حتى يندفع الاشتراك والمجاز، وإذا كان كذلك كان قوله: {وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ ءابَاؤُكُمْ} نهيا عن القدر المشترك بين هذين القسمين، والنهي عن القدر المشترك بين القسمين يكون نهيا عن كل واحد من القسمين لا محالة، فان النهي عن التزويج يكون نهيا عن العقد وعن الوطء معا، فهذا أقصى ما يمكن أن يقال في تقرير هذا الاستدلال.
والجواب عنه من وجوه:
الأول: لا نسلم أن اسم النكاح يقع على الوطء، والوجوه التي احتجوا بها على ذلك فهي معارضة بوجوه:
أحدها: قوله عليه الصلاة والسلام: «النكاح سنتي».
ولا شك أن الوطء من حيث كونه وطأ ليس سنة له، وإلا لزم أن يكون الوطء بالسفاح سنة له فلما ثبت أن النكاح سنة، وثبت أن الوطء ليس سنة، ثبت أن النكاح ليس عبارة عن الوطء، كذلك التمسك بقوله: «تناكحوا تكثروا» ولو كان الوطء مسمى بالنكاح لكان هذا إذنا في مطلق الوطء وكذلك التمسك بقوله تعالى: {وَأَنْكِحُواْ الأيامى مِنْكُمْ} [النور: 32] وقوله: {فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ مّنَ النساء} [النساء: 3].
لا يقال: لما وقع التعارض بين هذه الدلائل فالترجيح معنا، وذلك لأنا لو قلنا: الوطء مسمى بالنكاح على سبيل الحقيقة لزم دخول المجاز في دلائلنا، ومتى وقع التعارض بين المجاز والتخصيص كان التزام التخصيص أولى.
لأنا نقول: أنتم تساعدون على أن لفظ النكاح مستعمل في العقد، فلو قلنا: إن النكاح حقيقة في الوطء لزم دخول التخصيص في الآيات التي ذكرناها، ولزم القول بالمجاز في الآيات التي ذكر النكاح فيها بمعنى العقد، أما قولنا: ان النكاح فيها بمعنى الوطء فلا يلزمنا التخصيص، فقولكم يوجب المجاز والتخصيص معا، وقولنا يوجب المجاز فقط، فكان قولنا أولى.
الوجه الثاني: من الوجوه الدالة على أن النكاح ليس حقيقة في الوطء قوله عليه الصلاة والسلام:
ولدت من نكاح ولم أولد من سفاح أثبت نفسه مولودا من النكاح وغير مولود من السفاح، وهذا يقتضي أن لا يكون السفاح نكاحا، والسفاح وطء، فهذا يقتضي أن لا يكون الوطء نكاحا.
الوجه الثالث: أنه من حلف في أولاد الزنا: أنهم ليسوا أولاد النكاح لم يحنث، ولو كان الوطء نكاحا لوجب أن يحنث، وهذا دليل ظاهر على أن الوطء ليس مسمى بالنكاح على سبيل الحقيقة.
الثاني: سلمنا أن الوطء مسمى بالنكاح، لكن العقد أيضاً مسمى به، فلم كان حمل الآية على ما ذكرتم أولى من حملها على ما ذكرنا؟
أما الوجه الأول: وهو الذي ذكره الكرخي فهو في غاية الركاكة، وبيانه من وجهين:
الأول: أو الوطء مسبب العقد، فكما يحسن إطلاق اسم المسبب على السبب مجازا فكذلك يحسن اطلاق اسم السبب على المسبب مجازا. فكما يحتمل أن يقال: النكاح اسم للوطء ثم أطلق هذا الاسم على العقد لكونه سببا للوطء، فكذلك يحتمل أن يقال: النكاح اسم للعقد، ثم أطلق هذا الاسم على الوطء لكون الوطء مسبباً له، فلم كان أحدهما أولى من الآخر؟ بل الاحتمال الذي ذكرناه أولى، لأن استلزام السبب للمسبب أتم من استلزام المسبب للسبب المعين، فانه لا يمتنع أن يكون لحصول الحقيقة الواحدة أسباب كثيرة، كالملك فانه يحصل بالبيع والهبة والوصية والارث، ولا شك أن الملازمة شرط لجواز المجاز، فثبت أن القول بأن اسم النكاح حقيقة في العقد مجاز في الوطء، أولى من عكسه.
الوجه الثاني: أن النكاح لو كان حقيقة في الوطء مجازا في العقد، وقد ثبت في أصول الفقه أنه لا يجوز استعمال اللفظ الواحد في حقيقته ومجازه معا، فحينئذ يلزم أن لا تكون الآية دالة على حكم العقد، وهذا وإن كان قد التزمه الكرخي لكنه مدفوع بالدليل القاطع، وذلك لأن المفسرين أجمعوا على أن سبب نزول هذه الآية هو أنهم كانوا يتزوجون بأزواج آبائهم، وأجمع المسلمون على أن سبب نزول الآية لابد وأن يكون داخلا تحت الآية، بل اختلفوا في أن غيره هل يدخل تحت الآية أم لا؟ وأما كون سبب النزول داخلا فيها فذاك مجمع عليه بين الأمة، فاذا ثبت باجماع المفسرين، أن سبب نزول هذه الآية هو العقد لا الوطء، وثبت باجماع المسلمين أن سبب النزول لابد وأن يكون مراداً، ثبت بالاجماع أن النهي عن العقد مراد من هذه الآية، فكان قول الكرخي واقعا على مضادة هذا الدليل القاطع، فكان فاسداً مردودا قطعا.
أما الوجه الثاني: مما ذكروه وهو أنا نحمل لفظ النكاح على مفهوميه، فنقول: هذا أيضا باطل، وقد بينا وجه بطلانه في أصول الفقه.
وأما الوجه الثالث: فهو أحسن الوجوه المذكورة في هذا الباب، وهو أيضاً ضعيف لأن الضم الحاصل في الوطء عبارة عن تجاور الأجسام وتلاصقها، والضم الحاصل في العقد ليس كذلك لأن الايجاب والقبول أصوات غير باقية، فمعنى الضم والتلاقي والتجاور فيها محال، وإذا كان كذلك ثبت أنه ليس بين الوطء وبين العقد مفهوم مشترك حتى يقال: إن لفظ النكاح حقيقة فيه، فاذا بطل ذلك لم يبق إلا أن يقال: لفظ النكاح مشترك بين الوطء وبين العقد، ويقال: إنه حقيقة في أحدهما مجاز في الآخر، وحينئذ يرجع الكلام إلى الوجهين الأولين، فهذا هو الكلام الملخص في هذا.
الوجه الثاني: في الجواب عن هذا الاستدلال أن نقول: سلمنا أن النكاح بمعنى الوطء، ولكن لم قلتم: إن قوله: {مَا نَكَحَ ءابَاؤُكُمْ} المراد منه المنكوحة، والدليل عليه إجماعهم على أن لفظه ما حقيقة في غير العقلاء، فلو كان المراد منه هاهنا المنكوحة لزم هذا المجاز، وإنه خلاف الأصل، بل أهل العربية اتفقوا على أن ما مع بعدها في تقدير المصدر، فتقدير الآية: ولا تنكحوا نكاح آبائكم، وعلى هذا يكون المراد منه النهي عن أن تنكحوا نكاحا مثل نكاح آبائكم، فان أنكحتهم كانت بغير ولي ولا شهود، وكانت موقتة، وكانت على سبيل القهر والالجاء، فالله تعالى نهاهم بهذه الآية عن مثل هذه الأنكحة، وهذا الوجه منقول عن محمد بن جرير الطبري في تفسير هذه الآية.
الوجه الثالث: في الجواب عن هذا الاستدلال: سلمنا أن المراد من قوله: {مَا نَكَحَ ءابَاؤُكُمْ} المنكوحة، والتقدير: ولا تنكحوا من نكح آباؤكم ولكن قوله: من نكح آباؤكم ليس صريحا في العموم بدليل أنه يصح إدخال لفظي الكل والبعض عليه، فيقال: ولا تنكحوا كل ما نكح آباؤكم ولا تنكحوا بعض من نكح آباؤكم، ولو كان هذا صريحا في العموم لكان إدخال لفظ الكل عليه تكريراً، وإدخال لفظ البعض عليه نقصا، ومعلوم أنه ليس كذلك، فثبت أن قوله: {وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ ءابَاؤُكُمْ} لا يفيد العموم، وإذا لم يفد العموم لم يتناول محل النزاع.
لا يقال: لو لم يفد العموم لم يكن صرفه إلى بعض الأقسام أولى من صرفه الى الباقي، فحينئذ يصير مجملا غير مفيد، والأصل أن لا يكون كذلك.
لأنا نقول: لا نسلم أن بتقدير أن لا يفيد العموم لم يكن صرفه إلى البعض أولى من صرفه إلى غيره، وذلك لأن المفسرين أجمعوا على أن سبب نزوله إنما هو التزوج بزوجات الآباء، فكان صرفه إلى هذا القسم أولى، وبهذا التقدير لا يلزم كون الآية مجملة، ولا يلزم كونها متناولة لمحل النزاع.
الوجه الرابع: سلمنا أن هذا النهي يتناول محل النزاع، لكن لم قلتم: إنه يفيد التحريم؟ أليس أن كثيرا من أقسام النهي لا يفيد التحريم، بل يفيد التنزيه، فلم قلتم: إنه ليس الأمر كذلك؟ أقصى ما في الباب أن يقال: هذا على خلاف الأصل، ولكن يجب المصير إليه إذا دل الدليل، وسنذكر دلائل صحة هذا النكاح إن شاء الله تعالى.
الوجه الخامس: أن ما ذكرتم هب أنه يدل على فساد هذا النكاح، إلا أن هاهنا ما يدل على صحة هذا النكاح وهو من وجوه:
الحجة الأولى: هذا النكاح منعقد فوجب أن يكون صحيحا، بيان أنه منعقد أنه عند أبي حنيفة رضي الله عنه منهي عنه بهذه الآية، ومن مذهبه أن النهي عن الشيء يدل على كونه في نفسه منعقدا وهذا هو أصل مذهبه في مسألة البيع الفاسد وصوم يوم النحر، فيلزم من مجموع هاتين المقدمتين أن يكون هذا النكاح منعقدا على أصل أبي حنيفة، وإذا ثبت القول بالانعقاد في هذه الصورة وجب القول بالصحة لأنه لا قائل بالفرق. فهذا وجه حسن من طريق الالزام عليهم في صحة هذا النكاح.
الحجة الثانية: عموم قوله تعالى: {وَلاَ تَنْكِحُواْ المشركات حتى يُؤْمِنَّ} [البقرة: 221] نهى عن نكاح المشركات ومد النهي إلى غاية وهي إيمانهن، والحكم الممدود إلى غاية ينتهي عند حصول تلك الغاية، فوجب أن ينتهي المنع من نكاحهن عند إيمانهن، وإذا انتهى المنع حصل الجواز، فهذا يقتضي جواز نكاحهن على الاطلاق، ولا شك أنه يدخل في هذا العموم مزنية الأب وغيرها، أقصى ما في الباب أن هذا العموم دخله التخصيص في مواضع يبقى حجة في غير محل التخصيص. وكذلك نستدل بجميع العمومات الواردة في باب النكاح كقوله تعالى: {وَأَنْكِحُواْ الأيامى} [النور: 32] وقوله: {فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ مّنَ النساء} [النساء: 3] وأيضا نتمسك بقوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ} [النساء: 24] وليس لأحد أن يقول: إن قوله: {مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ} ضمير عائد إلى المذكور السابق، ومن جملة المذكور السابق قوله: {وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ ءابَاؤُكُمْ} وذلك لأن الضمير يجب عوده إلى أقرب المذكورات، وأقرب المذكورات اليه هو من قوله: {حُرّمَتْ عَلَيْكُمْ أمهاتكم} [النساء: 23] فكان قوله: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ} عائدا اليه، ولا يدخل فيه قوله: {وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ ءابَاؤُكُمْ} وأيضاً نتمسك بعمومات الأحاديث كقوله عليه الصلاة والسلام: «إذا جاءكم من ترضون دينه فزوجوه».
وقوله: «زوجوا بناتكم الأكفاء» فكل هذه العمومات يتناول: محل النزاع.
واعلم أنا بينا في أصول الفقه أن الترجيح بكثرة الأدلة جائز، وإذا كان كذلك فنقول بتقدير أن يثبت لهم أن النكاح حقيقة في الوطء مجاز في العقد، فلو حملنا الآية على العقد لم يلزمنا إلا مجاز واحد، وبتقدير أن نحمل تلك الآية على حرمة النكاح يلزمنا هذه التخصيصات الكثيرة فكان الترجيح من جانبنا بسبب كثرة الدلائل.
الحجة الثالثة: الحديث المشهور في المسألة وهو قوله عليه الصلاة والسلام:
الحرام لا يحرم الحلال أقصى ما في الباب أن يقال: إن قطرة من الخمر إذا وقعت في كوز من الماء فهاهنا الحرام حرم الحلال، وإذا اختلطت المنكوحة بالاجنبيات واشتبهت بهن، فهاهنا الحرام حرم الحلال، إلا أنا نقول: دخول التخصيص فيه في بعض الصور، ولا يمنع من الاستدلال به.


الحجة الرابعة: من جهة القياس أن نقول: المقتضى لجواز النكاح قائم، والفارق بين محل الاجماع وبين محل النزاع ظاهر، فوجب القول بالجواز، أما المقتضى فهو أن يقيس نكاح هذه المرأة على نكاح سائر النسوان عند حصول الشرائط المتفق عليها، بجامع ما في النكاح من المصالح، وأما الفارق فهو أن هذه المحرمية إنما حكم الشرع بثبوتها، سعيا في إبقاء الوصلة الحاصلة بسبب النكاح ومعلوم أن هذا لا يليق بالزنا.
بيان المقام الأول: من تزوج بامرأة، فلو لم يدخل على المرأة أب الرجل وابنه. ولم تدخل على الرجل أم المرأة وبنتها، لبقيت المرأة كالمحبوسة في البيت، ولتعطل على الزوج والزوجة أكثر المصالح ولو أذنا في هذا الدخول ولم نحكم بالمحرمية فربما امتد عين البعض إلى البعض وحصل الميل والرغبة وعند حصول التزوج بأمها أو ابنتها تحصل النفرة الشديدة بينهن، لأن صدور الايذاء عن الأقارب أقوى وقعا وأشد إيلاما وتأثيرا، وعند حصول النفرة الشديدة يحصل التطليق والفراق، أما إذا حصلت المحرمية انقطعت الأطماع وانحبست الشهوة، فلا يحصل ذلك الضرر، فبقي النكاح بين الزوجين سليما عن هذه المفسدة، فثبت أن المقصود من حكم الشرع بهذه المحرمية، السعي في تقرير الاتصال الحاصل بين الزوجين، وإذا كان المقصود من شرع المحرمية ابقاء ذلك الاتصال، فمعلوم أن الاتصال الحاصل عند النكاح مطلوب البقاء، فيتناسب حكم الشرع باثبات هذه المحرمية، وأما الاتصال الحاصل عند الزنا فهو غير مطلوب البقاء، فلم يتناسب حكم الشرع باثبات هذه المحرمية، وهذا وجه مقبول مناسب في الفرق بين البابين، وهذا هو من قول الامام الشافعي رضي الله عنه عند مناظرته في هذه المسألة محمد بن الحسن حيث قال: وطء حمدت به، ووطء رجمت به، فكيف يشتبهان؟ ولنكتف بهذا القدر من الكلام في هذه المسألة.
واعلم أن السبب في ذكر هذا الاستقصاء هاهنا أن أبا بكر الرازي طول في هذه المسألة في تصنيفه، وما كان ذلك التطويل إلا تطويلا في الكلمات المختلطة والوجوه الفاسدة الركيكة، ثم إنه لما آل الأمر إلى المكالمة مع الامام الشافعي أساء في الأدب وتعدى طوره، وخاض في السفاهة وتعامى عن تقرير دلائله وتغافل عن إيراد حججه، ثم انه بعد أن كتب الأوراق الكثيرة في الترهات التي لا نفع لمذهبه منها ولا مضرة على خصومه بسببها، أظهر القدح الشديد والتصلف العظيم في كثرة علوم أصحابه وقلة علوم من يخالفهم، ولو كان من أهل التحصيل لبكى على نفسه من تلك الكلمات التي حاولت نصرة قوله بها، ولتعلم الدلائل ممن كان أهلا لمعرفتها، ومن نظر في كتابنا ونظر في كتابه وأنصف علم أنا أخذنا منه خرزة، ثم جعلناها لؤلؤة من شدة التخليص والتقرير ثم أجبنا عنه بأجوبة مستقيمة على قوانين الأصول، منطبقة على قواعد الفقه، ونسأل الله حسن الخاتمة ودوام التوفيق والنصرة.
المسألة الثالثة: ذكر المفسرون في قوله: {إَلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ} وجوها: الأول: وهو أحسنها: ما ذكره السيد صاحب حل المقل فقال: هذا استثناء على طريق المعنى لأن قوله: {وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ ءابَاؤُكُمْ مّنَ النساء إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ} قبل نزول آية التحريم فانه معفو عنه.
الثاني: قال صاحب الكشاف: هذا كما استثنى غير أن سيوفهم من قوله: (وَلاَ عيب فِيهِمْ) يعني إن أمكنكم أن تنكحوا ما قد سلف فانكحوه فانه لا يحل لكم غيره، وذلك غير ممكن، والغرض المبالغة في تحريمه وسد الطريق إلى إباحته، كما يقال: حتى يبيض القار، وحتى يلج الجمل في سم الخياط.
الثالث: أن هذا استثناء منقطع لأنه لا يجوز استثناء الماضي من المستقبل، والمعنى: لكن ما قد سلف فان الله تجاوز عنه.
والرابع: إلا هاهنا بمعنى بعد، كقوله تعالى: {لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا الموت إِلاَّ الموتة الأولى} [الدخان: 56] أي بعد الموتة الأولى.
الخامس: قال بعضهم: معناه إلا ما قد سلف فانكم مقرون عليه، قالوا: إنه عليه الصلاة والسلام أقرهم عليهن مدة ثم أمر بمفارقتهن.
وإنما فعل ذلك ليكون إخراجهم عن هذه العادة الرديئة على سبيل التدريج، وقيل: إن هذا خطأ، لأنه عليه الصلاة والسلام ما أقر أحدا على نكاح امرأة أبيه، وإن كان في الجاهلية.
روى البراء: أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث أبا بردة الى رجل عرس بامرأة أبيه ليقتله ويأخذ ماله.
المسألة الرابعة: الضمير في قوله تعالى: {أَنَّهُ} إلى ماذا يعود؟ فيه وجهان:
الأول: أنه راجع إلى هذا النكاح قبل النهي، أعلم الله تعالى أن هذا الذي حرمه عليهم كان لم يزل منكرا في قلوبهم ممقوتا عندهم، وكانت العرب تقول لولد الرجل من امرأة أبيه: مقتى، وذلك لأن زوجة الأب تشبه الأم، وكان نكاح الأمهات من أقبح الأشياء عند العرب، فلما كان هذا النكاح يشبه ذلك، لا جرم كان مستقبحا عندهم، فبين الله تعالى أن هذا النكاح أبدا كان ممقوتا وقبيحا.
الثاني: أن هذا الضمير راجع إلى هذا النكاح بعد النهي، فبين الله تعالى أنه كان فاحشة في الاسلام ومقتا عند الله، وإنما قال: {كَانَ} لبيان أنه كان في حكم الله وفي علمه موصوفا بهذا الوصف.
المسألة الخامسة: أنه تعالى وصفه بأمور ثلاثة: أولها: أنه فاحشة، وإنما وصف هذا النكاح بأنه فاحشة لما بينا أن زوجة الأب تشبه الأم فكانت مباشرتها من أفحش الفواحش.
وثانيها: المقت: وهو عبارة عن بغض مقرون باستحقار، حصل ذلك بسبب أمر قبيح ارتكبه صاحبه، وهو من الله في حق العبد يدل على غاية الخزي والخسار.
وثالثها: قوله: {وَسَاء سَبِيلاً} قال الليث: ساء فعل لازم وفاعله مضمر وسبيلا منصوب تفسيرا لذلك الفاعل، كما قال: {وَحَسُنَ أولئك رَفِيقاً} [النساء: 69] واعلم أن مراتب القبح ثلاثة: القبح في العقول، وفي الشرائع وفي العادات، فقوله: {إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً} إشارة إلى القبح العقلي، وقوله: {وَمَقْتاً} إشارة إلى القبح الشرعي، وقوله: {وَسَاء سَبِيلاً} إشارة إلى القبح، في العرف والعادة، ومتى اجتمعت فيه هذه الوجوه فقد بلغ الغاية في القبح والله أعلم.
النوع السادس: من التكاليف المتعلقة بالنساء المذكورة في هذه الآيات.


{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (23)}
قوله تعالى: {حُرّمَتْ عَلَيْكُمْ أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وَبَنَاتُ الأخ وَبَنَاتُ الأخت}.
اعلم أنه تعالى نص على تحريم أربعة عشر صنفا من النسوان: سبعة منهن من جهة النسب، وهن الأمهات والبنات والأخوات والعمات والخالات وبنات الأخ وبنات الأخت. وسبعة أخرى لا من جهة النسب: الأمهات من الرضاعة والأخوات من الرضاعة وأمهات النساء وبنات النساء بشرط أن يكون قد دخل بالنساء، وأزواج الابناء والآباء، إلا أن أزواج الأبناء مذكورة هاهنا، وأزواج الآباء مذكورة في الآية المتقدمة، والجمع بين الأختين. وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: ذهب الكرخي إلى أن هذه الآية مجملة قال: لأنه أضيف التحريم فيها إلى الأمهات والبنات، والتحريم لا يمكن إضافته إلى الاعيان، وإنما يمكن إضافته إلى الأفعال، وذلك الفعل غير مذكور في الآية، فليست إضافة هذا التحريم إلى بعض الأفعال التي لا يمكن إيقاعها في ذوات الأمهات والبنات، أولى من بعض، فصارت الآية مجملة من هذا الوجه.
والجواب عنه من وجهين:
الأول: أن تقديم قوله تعالى: {وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ ءابَاؤُكُمْ} [النساء: 22] يدل على أن المراد من قوله: {حُرّمَتْ عَلَيْكُمْ أمهاتكم} تحريم نكاحهن.
الثاني: أن من المعلوم بالضرورة من دين محمد صلى الله عليه وسلم أن المراد منه تحريم نكاحهن، والأصل فيه أن الحرمة والاباحة إذا أضيفتا إلى الاعيان، فالمراد تحريم الفعل المطلوب منها في العرف، فاذا قيل: حرمت عليكم الميتة والدم، فهم كل أحد أن المراد تحريم أكلهما، وإذا قيل: حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم، فهم كل أحد أن المراد تحريم نكاحهن، ولما قال عليه الصلاة والسلام: «لا يحل دم امرئ مسلم إلا لإحدى معان ثلاث».
فهم كل أحد أن المراد لا يحل إراقة دمه. وإذا كانت هذه الأمور معلومة بالضرورة كان إلقاء الشبهات فيها جاريا مجرى القدح في البديهيات وشبه السوفسطائية، فكانت في غاية الركاكة، والله أعلم.
بلى عندي فيه بحث من وجوه أخرى: أحدها: أن قوله: {حُرّمَتْ عَلَيْكُمُ} مذكور على ما لم يسم فاعله، فليس فيه تصريح بأن فاعل هذا التحريم هو الله تعالى، وما لم يثبت ذلك لم تفد الآية شيئا آخر، ولا سبيل اليه إلا بالاجماع، فهذه الآية وحدها لا تفيد شيئا، بل لابد معها من الاجماع على هذه المقدمة.
وثانيها: أن قوله: {حُرّمَتْ عَلَيْكُمُ} ليس نصا في ثبوت التحريم على سبيل التأييد، فان القدر المذكور في الآية يمكن تقسيمه الى المؤبد، والى المؤقت، كأنه تعالى تارة قال: حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم الى الوقت الفلاني فقط، وأخرى: حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم مؤبدا مخلدا، واذا كان القدر المذكور في الآية صالحا لأن يجعل موردا للتقسيم بهذين القسمين، لم يكن نصا في التأييد، فاذن هذا التأييد لا يستفاد من ظاهر الآية، بل من دلالة منفصلة.
وثالثها: أن قوله: {حُرّمَتْ عَلَيْكُمْ أمهاتكم} خطاب مشافهة فيخصص بأولئك الحاضرين، فاثبات هذا التحريم في حق الكل إنما يستفاد من دليل منفصل.
ورابعها: أن قوله: {حُرّمَتْ عَلَيْكُمْ أمهاتكم} إخبار عن ثبوت هذا التحريم في الماضي، وظاهر اللفظ غير متناول للحاضر والمستقبل فلا يعرف ذلك إلا بدليل منفصل.
وخامسها: أن ظاهر قوله: {حُرّمَتْ عَلَيْكُمْ أمهاتكم} يقتضي أنه قد حرم على كل أحد جميع أمهاتهم وجميع بناتهم، ومعلوم أنه ليس كذلك، بل المقصود أنه تعالى قابل الجمع بالجمع، فيقتضي مقابلة الفرد بالفرد، فهذا يقتضي أن الله تعالى قد حرم على كل أحد أمه خاصة، وبنته خاصة، وهذا فيه نوع عدول عن الظاهر.
وسادسها: أن قوله: {حرمات} يشعر ظاهره بسبق الحل، إذ لو كان أبدا موصوفا بالحرمة لكان قوله: {حرمات} تحريماً لما هو في نفسه حرام، فيكون ذلك إيجاد الموجود وهو محال، فثبت أن المراد من قوله: {حرمات} ليس تجديد التحريم حتى يلزم الاشكال المذكور، بل المراد الاخبار عن حصول التحريم، فثبت بهذه الوجوه أن ظاهر الآية وحده غير كاف في إثبات المطلوب، والله أعلم.
المسألة الثانية: اعلم أن حرمة الأمهات والبنات كانت ثابتة من زمن آدم عليه السلام إلى هذا الزمان، ولم يثبت حل نكاحهن في شيء من الأديان الالهية، بل ان زرداشت رسول المجوس قال بحله، إلا أن أكثر المسلمين اتفقوا على انه كان كذابا.
أما نكاح الاخوات فقد نقل أن ذلك كان مباحا في زمن آدم عليه السلام، وإنما حكم الله باباحة ذلك على سبيل الضرورة، ورأيت بعض المشايخ أنكر ذلك، وقال: انه تعالى كان يبعث الحواري من الجنة ليزوج بهن أبناء آدم عليه السلام وهذا بعيد، لأنه إذا كان زوجات أبنائه وأزواج بناته من أهل الجنة، فحينئذ لا يكون هذا النسل من أولاد آدم فقط، وذلك بالاجماع باطل. وذكر العلماء أن السبب لهذا التحريم: أن الوطء إذلال وإهانة، فان الإنسان يستحي من ذكره ولا يقدم عليه إلا في الموضع الخالي، وأكثر أنواع الشتم لا يكون إلا بذكره، وإذا كان الأمر كذلك وجب صون الأمهات عنه لأن إنعام الأم على الولد أعظم وجوه الانعام، فوجب صونها عن هذا الاذلال، والبنت بمنزلة جزء من الإنسان وبعض منه، قال عليه الصلاة والسلام: «فاطمة بضعة مني».
فيجب صونها عن هذا الاذلال، لأن المباشرة معها تجري مجرى الاذلال، وكذا القول في البقية والله أعلم. ولنشرع الآن في التفاصيل فنقول:
النوع الأول: من المحرمات: الأمهات، وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قال الواحدي رحمه الله: الأمهات جمع الأم والأم في الأصل أمهة فأسقط الهاء في التوحيد قال الشاعر:
أمهتى خندف والياس أبي ***
وقد تجمع الأم على أمات بغير هاء وأكثر ما يستعمل في الحيوان غير الآدمي قال الراعي:
كانت نجائب منذر ومحرق *** أماتهن وطرقهن فحيلا
المسألة الثانية: كل امرأة رجع نسبك إليها بالولادة من جهة أبيك أو من جهة أمك بدرجة أو بدرجات، بإناث رجعت إليها أو بذكور فهي أمك.
ثم هاهنا بحث وهو أن لفظ الأم لا شك أنه حقيقة في الأم الأصلية، فأما في الجدات فإما أن يكون حقيقة أو مجازا، فإن كان لفظ الأم حقيقة في الأم الأصلية وفي الجدات، فإما أن يكون لفظا متواطئا أو مشتركا، فإن كان لفظا متواطئا أعني أن يكون لفظ الأم موضوعا بإزاء قدر مشترك بين الأم الأصلية وبين سائر الجدات فعلى هذا التقدير يكون قوله تعالى: {حُرّمَتْ عَلَيْكُمْ أمهاتكم} نصا في تحريم الأم الأصلية وفي تحريم جميع الجدات، وأما إن كان لفظ الأم مشتركا في الأم الأصلية وفي الجدات، فهذا يتفرع على أن اللفظ المشترك بين أمرين هل يجوز استعماله فيهما معا أم لا؟ فمن جوزه حمل اللفظ هاهنا على الكل، وحينئذ يكون تحريم الجدات منصوصا عليه، ومن قال: لا يجوز، فالقائلون بذلك لهم طريقان في هذا الموضع: أحدهما: أن لفظ الأم لا شك أنه أريد به هاهنا الأم الأصلية، فتحريم نكاحها مستفاد من هذا الوجه، وأما تحريم نكاح الجدات فغير مستفاد من هذا النص، بل من الاجماع.
والثاني: أنه تعالى تكلم بهذه الآية مرتين، يريد في كل مرة مفهوما آخر، أما إذا قلنا: لفظ الأم حقيقة في الأم الأصلية مجاز في الجدات، فقد ثبت أنه لا يجوز استعمال اللفظ الواحد دفعة واحدة في حقيقته ومجازه معا، وحينئذ يرجع الطريقان اللذان ذكرناهما فيما إذا كان لفظ الأم حقيقة في الأم الأصلية، وفي الجدات.
المسألة الثالثة: قال الشافعي رحمه الله: إذا تزوج الرجل بأمه ودخل بها يلزمه الحد، وقال أبو حنيفة رحمه الله لا يلزمه.
حجة الشافعي أن وجود هذا النكاح وعدمه بمثابة واحدة، فكان هذا الوطء زنا محضا فيلزمه الحد لقوله تعالى: {الزانية والزانى فاجلدوا كُلَّ وَاحِدٍ مّنْهُمَا مِاْئَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2] إنما قلنا: إن وجود هذا النكاح وعدمه بمثابة واحدة لأنه تعالى قال: {حُرّمَتْ عَلَيْكُمْ أمهاتكم} وقد علم بالضرورة من دين محمد عليه الصلاة والسلام أن مراد الله تعالى من هذه الآية: تحريم نكاحها وإذا ثبت هذا فنقول: الموجود ليس إلا صيغة الايجاب والقبول، فلو حصل هذا الانعقاد، فإما أن يقال: إنه حصل في الحقيقة أو في حكم الشرع والأول باطل، لأن صيغة الايجاب والقبول كلام وهو عرض لا يبقى، والقبول لا يوجد إلا بعد الايجاب، وحصول الانعقاد بين الموجود والمعدوم محال.
والثاني: باطل، لأن الشرع بين في هذه الآية بطلان هذا العقد قطعا، ومع كون هذا العقد باطلا قطعا في حكم الشرع، كيف يمكن القول بأنه منعقد شرعا؟ فثبت أن وجود هذا العقد وعدمه بمثابة واحدة، وإذا ثبت ذلك فباقي التفريع والتقرير ما تقدم.
النوع الثاني: من المحرمات: البنات، وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: كل أنثى يرجع نسبها اليك بالولادة بدرجة أو بدرجات، باناث أو بذكور فهي بنتك، وأما بنت الابن وبنت البنت فهل تسمى بنتا حقيقة أو مجازا؟ فالبحث فيه عين ما ذكرناه في الأمهات.
المسألة الثانية: قال الشافعي رحمه الله: البنت المخلوقة من ماء الزنا لا تحرم على الزاني.
وقال أبو حنيفة: تحرم.
حجة الشافعي أنها ليست بنتاً له فوجب أن لا تحرم، إنما قلنا: إنها ليست بنتا لوجوه:
الأول: أن أبا حنيفة إما أن يثبت كونها بنتا له بناء على الحقيقة، وهي كونها مخلوقة من مائه، أو بناء على حكم الشرع بثبوت هذا النسب، والأول باطل على مذهبه طردا وعكسا، أما الطرد فهو أنه إذا اشترى جارية بكرا وافتضها وحبسها في داره فأتت بولد، فهذا الولد معلوم أنه مخلوق من مائه مع أن أبا حنيفة قال: لا يثبت نسبها إلا عند الاستلحاق، ولو كان السبب هو كون الولد متخلقا من مائه لما توقف في ثبوت هذا النسب بغير الاستلحاق، وأما العكس فهو أن المشرقي إذا تزوج بالمغربية وحصل هناك ولد، فأبو حنيفة أثبت النسب هنا مع القطع بأنه غير مخلوق من مائه، فثبت أن القول بجعل التخليق من مائه سببا للنسب باطل طردا وعكسا على قول أبي حنيفة، وأما إذا قلنا: النسب إنما يثبت بحكم الشرع، فهاهنا أجمع المسلمون على أنه لا نسب لولد الزنا من الزاني، ولو انتسب إلى الزاني لوجب على القاضي منعه من ذلك الانتساب، فثبت أن انتسابها اليه غير ممكن، لا بناء على الحقيقة، ولا بناء على حكم الشرع.
الوجه الثاني: التمسك بقوله عليه الصلاة والسلام: «الولد للفراش وللعاهر الحجر».
فقوله: «الولد للفراش» يقتضي حصر النسب في الفراش.
الوجه الثالث: لو كانت بنتاً له لأخذت الميراث لقوله تعالى: {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِ الأنثيين} [النساء: 11] ولثبتت له ولاية الاجبار، لقوله عليه السلام: «زوجوا بناتكم الأكفاء» ولوجب عليه نفقتها وحضانتها، ولحلت الخلوة بها، فلما لم يثبت شيء من ذلك علمنا انتفاء البنتية، وإذا ثبت أنها ليست بنتاً له وجب أن يحل التزوج بها، لأن حرمة التزوج بها إما للبنتية، أو لأجل أن الزنا يوجب حرمة المصاهرة، وهذا الحصر ثابت بالاجماع. والبنتية باطلة كما ذكرنا، وحرمة المصاهرة بسبب الزنا أيضا باطلة كما تقدم شرح هذه المسألة، فثبت أنها غير محرمة على الزاني والله أعلم.
النوع الثالث: من المحرمات: الأخوات: ويدخل فيه الأخوات من الأب والأم معا، والأخوات من الأب فقط، والأخوات من الأم فقط.
النوع الرابع والخامس: العمات والخالات.
قال الواحدي رحمه الله: كل ذكر رجع نسبك اليه فأخته عمتك، وقد تكون العمة من جهة الأم وهي أخت أبي أمك، وكل أنثى رجع نسبك اليها بالولادة فأختها خالتك، وقد تكون الخالة من جهة الأب وهي أخت أم أبيك.
النوع السادس والسابع: بنات الأخ وبنات الأخت: والقول في بنات الأخ وبنات الأخت كالقول في بنات الصلب. فهذه الأقسام السبعة محرمة في نص الكتاب بالانساب والارحام.
قال المفسرون: كل امرأة حرم الله نكاحها للنسب والرحم، فتحريمها مؤبد لا يحل بوجه من الوجوه، وأما اللواتي يحل نكاحهن ثم يصرن محرمات بسبب طارئ، فهن اللاتي ذكرن في باقي الآية.
النوع الثامن والتاسع:
قوله تعالى: {وأمهاتكم الْلاَّتِى أَرْضَعْنَكُمْ وأخواتكم مّنَ الرضاعة}.
وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قال الواحدي رحمه الله: المرضعات سماهن أمهات لأجل الحرمة، كما أنه تعالى سمى أزواج النبي عليه السلام أمهات المؤمنين في قوله: {وأزواجه أمهاتهم} [الأحزاب: 6] لأجل الحرمة.
المسألة الثانية: أنه تعالى نص في هذه الآية على حرمة الأمهات والأخوات من جهة الرضاعة إلا أن الحرمة غير مقصورة عليهن، لأنه صلى الله عليه وسلم قال: «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب» وإنما عرفنا أن الأمر كذلك بدلالة هذه الآيات، وذلك لأنه تعالى لما سمى المرضعة أماً، والمرضعة أختا، فقد نبه بذلك على أنه تعالى أجرى الرضاع مجرى النسب، وذلك لأنه تعالى حرم بسبب النسب سبعا: اثنتان منها هما المنتسبتان بطريق الولادة، وهما الأمهات والبنات، وخمس منها بطريق الأخوة، وهو الأخوات والعمات والخالات وبنات الأخ وبنات الأخت، ثم أنه تعالى لما شرع بعد ذلك في أحوال الرضاع ذكر من هذين القسمين صورة واحدة تنبيها بها على الباقي، فذكر من قسم قرابة الولادة الأمهات، ومن قسم قرابة الاخوة الأخوات، ونبه بذكر هذين المثالين من هذين القسمين على أن الحال في باب الرضاع كالحال في النسب، ثم انه عليه السلام أكد هذا البيان بصريح قوله: يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب فصار صريح الحديث مطابقاً لمفهوم الآية، وهذا بيان لطيف.
المسألة الثالثة: أم الأنسان من الرضاع هي التي أرضعته، وكذلك كل امرأة انتسبت الى تلك المرضعة بالأمومة، إما من جهة النسب أو من جهة الرضاع، والحال في الأب كما في الأم، واذا عرفت الأم والأب فقد عرفت البنت أيضا بذلك الطريق، وأما الأخوات فثلاثة: الأولى أختك لأبيك وأمك، وهي الصغيرة الأجنبية التي أرضعتها أمك بلبن أبيك، سواء أرضعتها معك أو مع ولد قبلك أو بعدك، والثانية أختك لأبيك دون أمك، وهي التي أرضعتها زوجة أبيك بلبن أبيك، والثالثة أختك لأمك دون أبيك، وهي التي أرضعتها أمك بلبن رجل آخر، واذا عرفت ذلك سهل عليك معرفة العمات والخالات وبنات الأخ وبنات الأخت.
المسألة الرابعة: قال الشافعي رحمة الله عليه: الرضاع يحرم بشرط أن يكون خمس رضعات، وقال أبو حنيفة رضي الله عنه: الرضعة الواحدة كافية، وقد مرت هذه المسألة في سورة البقرة، واحتج أبو بكر الرازي بهذه الآية فقال: انه تعالى علق هذا الاسم يعني الأمومة والاخوة بفعل الرضاع، فحيث حصل هذا الفعل وجب أن يترتب عليه الحكم، ثم سأل نفسه فقال: ان قوله تعالى: {وأمهاتكم الْلاَّتِى أَرْضَعْنَكُمْ} بمنزلة قول القائل: وأمهاتكم اللاتي أعطينكم، وأمهاتكم اللاتي كسونكم، وهذا يقتضي تقدم حصول صفة الأمومة والأختية على فعل الرضاع، بل لو أنه تعالى قال: اللاتي أرضعنكم هن أمهاتكم لكان مقصودكم حاصلا.
وأجاب عنه بأن قال: الرضاع هو الذي يكسوها سمة الأمومة، فلما كان الاسم مستحقا بوجود الرضاع كان الحكم معلقا به، بخلاف قوله وأمهاتكم اللاتي كسونكم، لأن اسم الأمومة غير مستفاد من الكسوة، قال ويدل على أن ذلك مفهوم من هذه الآية ما روي أنه جاء رجل الى ابن عمر رضي الله عنهما فقال: قال ابن الزبير: لا بأس بالرضعة ولا بالرضعتين، فقال ابن عمر: قضاء الله خير من قضاء ابن الزبير، قال الله تعالى: {وأخواتكم مّنَ الرضاعة} قال: فعقل ابن عمر من ظاهر اللفظ التحريم بالرضاع القليل.
واعلم أن هذا الجواب ركيك جداً، أما قوله: ان اسم الأمومة إنما جاء من فعل الرضاع فنقول: وهل النزاع الا فيه، فإن عندي أن اسم الأمومة إنما جاء من الرضاع خمس مرات، وعندك إنما جاء من أصل الرضاع، وأنت إنما تمسكت بهذه الآية لاثبات هذا الأصل، فاذا أثبت التمسك بهذه الآية على هذا الأصل كنت قد أثبت الدليل بالمدلول وإنه دور وساقط، وأما التمسك بأن ابن عمر فهم من الآية حصول التحريم بمجرد فعل الرضاع، فهو معارض بما أن ابن الزبير ما فهمه منه، وكان كل واحد منهما من فقهاء الصحابة ومن العلماء بلسان العرب، فكيف جعل فهم أحدهما حجة ولم يجعل فهم الآخر حجة على قول خصمه. ولولا التعصب الشديد المعمي للقلب لما خفي ضعف هذه الكلمات، ثم ان أبا بكر الرازي أخد يتمسك في إثبات مذهبه بالأحاديث والأقيسة، ومن تكلم في أحكام القرآن وجب أن لا يذكر إلا ما يستنبطه من الآية، فأما ما سوى ذلك فانما يليق بكتب الفقه.
النوع العاشر: من المحرمات.
قوله تعالى: {وأمهات نِسَائِكُمْ} وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: يدخل في هذه الآية الأمهات الأصلية وجميع جداتها من قبل الأب والأم كما بينا مثله في النسب.
المسألة الثانية: مذهب الأكثرين من الصحابة والتابعين أن من تزوج بامرأة حرمت عليه أمها سواء دخل بها أو لم يدخل، وزعم جمع من الصحابة أن أم المرأة إنما تحرم بالدخول بالبنت كما أن الربيبة إنما تحرم بالدخول بأمها، وهو قول علي وزيد وابن عمر وابن الزبير وجابر، وأظهر الروايات عن ابن عباس، وحجتهم أنه تعالى ذكر حكمين وهو قوله: {وأمهات نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللاتى فِي حُجُورِكُمْ} ثم ذكر شرطا وهو قوله: {مّن نِّسَائِكُمُ اللاتى دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} فوجب أن يكون ذلك الشرط معتبرا في الجملتين معا، وحجة القول الأول أن قوله تعالى: {وأمهات نِسَائِكُمْ} جملة مستقلة بنفسها ولم يدل الدليل على عود ذلك الشرط اليه، فوجب القول ببقائه على عمومه، وإنما قلنا إن هذا الشرط غير عائد لوجوه:
الأول: وهو أن الشرط لابد من تعليقه بشيء سبق ذكره فاذا علقناه باحدى الجملتين لم يكن بنا حاجة إلى تعليقه بالجملة الثانية، فكان تعليقه بالجملة الثانية تركا للظاهر من غير دليل، وانه لا يجوز.
الثاني: وهو أن عموم هذه الجملة معلوم، وعود الشرط اليه محتمل، لأنه يجوز أن يكون الشرط مختصاً بالجملة الأخيرة فقط، ويجوز أن يكون عائدا إلى الجملتين معا، والقول بعود هذا الشرط إلى الجملتين ترك لظاهر العموم بمخصص مشكوك، وانه لا يجوز.
الثالث: وهو أن هذا الشرط لو عاد إلى الجملة الأولى، فاما أن يكون مقصورا عليها، وإما أن يكون متعلقا بها وبالجملة الثانية أيضاً، والأول باطل، لأن على هذا التقدير يلزم القول بتحريم الربائب مطلقا، وذلك باطل بالاجماع، والثاني باطل أيضا، لأن على هذا التقدير يصير نظم الآية هكذا وأمهات نسائكم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن، فيكون المراد بكلمة من هاهنا التمييز ثم يقول: وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن، فيكون المراد بكلمة من هاهنا ابتداء الغاية كما يقول: بنات الرسول من خديجة، فيلزم استعمال اللفظ الواحد المشترك في كلا مفهوميه وانه غير جائز، ويمكن أن يجاب عنه فيقال: إن كلمة من للاتصال كقوله تعالى: {والمؤمنون والمؤمنات بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ} [التوبة: 71] وقال عليه الصلاة والسلام: «ما أنا من دد ولا الدد مني» ومعنى مطلق الاتصال حاصل في النساء والربائب معا.
الوجه الرابع: في الدلالة على ما قلناه: ما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «اذا نكح الرجل المرأة فلا يحل له أن يتزوج أمها، دخل بالبنت أو لم يدخل، واذا تزوج الأم فلم يدخل بها ثم طلقها فان شاء تزوج البنت» وطعن محمد بن جرير الطبري في صحة هذا الحديث. وكان عبدالله بن مسعود يفتي بنكاح أم المرأة اذا طلق بنتها قبل المسيس وهو يومئذ بالكوفة، فاتفق أن ذهب الى المدينة فصادفهم مجمعين على خلاف فتواه، فلما رجع الى الكوفة لم يدخل داره حتى ذهب إلى ذلك الرجل وقرع عليه الباب وأمره بالنزول عن تلك المرأة.
وروى قتادة عن سعيد بن المسيب أن زيد بن ثابت قال: الرجل إذا طلق امرأته قبل الدخول وأراد أن يتزوج أمها فإن طلقها قبل الدخول تزوج أمها، وإن ماتت لم يتزوج أمها، واعلم أنه إنما فرق بين الموت والطلاق في التحريم، لأن الطلاق قبل الدخول لا يتعلق به شيء من أحكام الدخول، ألا ترى أنه لا يجب عليها عدة، وأما الموت فلما كان في حكم الدخول في باب وجوب العدة، لا جرم جعله الله سببا لهذا التحريم.
النوع الحادي عشر: من المحرمات.
قوله تعالى: {وَرَبَائِبُكُمُ اللاتى فِي حُجُورِكُمْ مّن نِّسَائِكُمُ اللاتى دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِن لَّمْ تَكُونُواْ دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ}.
وفيه مسائل:
المسألة الأولى: الربائب: جمع رَبيبَة، وهي بنتُ امرأة الرجل من غيره، ومعناها مَرْبوبَة، لأن الرجل هو يربها يقال: ربيت فلانا أربه: وربيته أربيه بمعنى واحد، والحجور جمع حجر، وفيه لغتان قال ابن السِّكِّيْت: حجر الإنسان وحجره بالفتح والكسر، والمراد بقوله: {فِى حُجُورِكُمْ} أي في تربيتكم، يقال: فلان في حجر فلان اذا كان في تربيته، والسبب في هذه الاستعارة أن كل من ربى طفلا أجلسه في حجره، فصار الحجر عبارة عن التربية، كما يقال: فلان في حضانة فلان، وأصله من الحضن الذي هو الابط، وقال أبو عبيدة: في حجوركم أي في بيوتكم.


المسألة الثانية: روى مالك بن أوس بن الحدثان عن علي رضي الله عنه أنه قال: الربيبة اذا لم تكن في حجر الزوج وكانت في بلد آخر، ثم فارق الأم بعد الدخول فانه يجوز له أن يتزوج الربيبة، ونقل أنه رضوان الله عليه احتج على ذلك بأنه تعالى قال: {وَرَبَائِبُكُمُ اللاتى فِي حُجُورِكُمْ} شرط في كونها ربيبة له، كونها في حجره، فاذا لم تكن في تربيته ولا في حجره فقد فات الشرط، فوجب أن لا تثبت الحرمة، وهذا استدلال حسن.
وأما سائر العلماء فانهم قالوا: إذا دخل بالمرأة حرمت عليه ابنتها سواء كانت في تربيته أو لم تكن، والدليل عليه قوله تعالى: {فَإِن لَّمْ تَكُونُواْ دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} علق رفع الجناح بمجرد عدم الدخول، وهذا يقتضي أن المقتضى لحصول الجناح هو مجرد الدخول.
وأما الجواب عن حجة القول الأول فهو أن الأعم الأغلب أن بنت زوجة الإنسان تكون في تربيته، فهذا الكلام على الأعم، لا أن هذا القيد شرط في حصول هذا التحريم.
المسألة الثالثة: تمسك أبو بكر الرازي في إثبات أن الزنا يوجب حرمة المصاهرة بقوله تعالى: {وَرَبَائِبُكُمُ اللاتى فِي حُجُورِكُمْ مّن نِّسَائِكُمُ اللاتى دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} قال: لأن الدخول بها اسم لمطلق الوطء سواء كان الوطء نكاحا أو سفاحا، فدل هذا على أن الزنا بالأم يوجب تحريم البنت، وهذا الاستدلال في نهاية الضعف، وذلك لأن هذه الآية مختصة بالمنكوحة لدليلين: الأول: أن هذه الآية إنما تناولت امرأة كانت من نسائه قبل دخوله بها والمزني بها ليست كذلك، فيمتنع دخولها في الآية بيان الأول من وجهين:
الأول: أن قوله: {مّن نِّسَائِكُمُ اللاتى دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} يقتضي أن كونها من نسائه يكون متقدما على دخوله بها، والثاني: أنه تعالى قسم نساءهم إلى من تكون مدخولا بها، وإلى من لا تكون كذلك، بدليل قوله: {فَإِن لَّمْ تَكُونُواْ دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} وإذا كان نساؤهم منقسمة إلى هذين القسمين علمنا أن كون المرأة من نسائه أمر مغاير للدخول بها، وأما بيان أن المزنية ليست كذلك، فذلك لأن في النكاح صارت المرأة بحكم العقد من نسائه سواء دخل بها أو لم يدخل بها، أما في الزنا فانه لم يحصل قبل الدخول بها حالة أخرى تقتضي صيرورتها من نسائه، فثبت بهذا أن المزنية غير داخلة في هذه الآية.
الثاني: لو أوصى لنساء فلان، لا تدخل هذه الزانية فيهن، وكذلك لو حلف على نساء بني فلان، لا يحصل الحنث والبر بهذه الزانية، فثبت ضعف هذا الاستدلال والله أعلم.
النوع الثاني عشر: من المحرمات.
قوله تعالى: {وحلائل أَبْنَائِكُمُ الذين مِنْ أصلابكم} وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قال الشافعي-رحمه الله-: لا يجوز للأب أن يتزوج بجارية ابنه، وقال أبو حنيفة رضي الله عنه: إنه يجوز، احتج الشافعي فقال: جارية الابن حليلة، وحليلة الابن محرمة على الأب، أما المقدمة الأولى فبيانها بالبحث عن الحليلة فنقول: الحليلة فعيلة فتكون بمعنى الفاعل أو بمعنى المفعول، ففيه وجهان:
أحدهما: أن يكون مأخوذا من الحل الذي هو الاباحة، فالحليلة تكون بمعنى المحلة أي المحللة، ولا شك أن الجارية كذلك فوجب كونها حليلة له.
الثاني: أن يكون ذلك مأخوذا من الحلول، فالحليلة عبارة عن شيء يكون محل الحلول، ولا شك أن الجارية موضع حلول السيد، فكانت حليلة له، أما إذا قلنا: الحليلة بمعنى الفاعل ففيه وجهان أيضاً: الأول: أنها لشدة اتصال كل واحد منهما بالآخر كأنهما يحلان في ثوب واحد وفي لحاف واحد وفي منزل واحد ولا شك أن الجارية كذلك.
الثاني: ان كل واحد منهما كأنه حال في قلب صاحبه وفي روحه لشدة ما بينهما من المحبة والالفة، فثبت بمجموع ما ذكرناه أن جارية الابن حليلة، وأما المقدمة الثانية وهي أن حليلة الابن محرمة على الأب لقوله تعالى: {وحلائل أَبْنَائِكُمُ الذين} لا يقال: إن أهل اللغة يقولون: حليلة الرجل زوجته لأنا نقول: إنا قد بينا بهذه الوجوه الأربعة من الاشتقاقات الظاهرة أن لفظ الحليلة يتناول الجارية، فالنقل الذي ذكرتموه لا يلتفت اليه. فكيف وهو شهادة على النفي؟ فانا لا ننكر أن لفظ الحليلة يتناول الزوجة، ولكنا نفسره بمعنى يتناول الزوجة والجارية، فقول من يقول: إنه ليس كذلك شهادة على النفي ولا يلتفت إليه.
المسألة الثانية: قوله: {الذين مِنْ أصلابكم} احترازاً عن المتبني، وكان المتبني في صدر الاسلام بمنزلة الابن، ولا يحرم على الإنسان حليلة من ادعاه ابنا إذا لم يكن من صلبه، نكح الرسول صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش الأسدية وهي بنت أميمة بنت عبد المطلب، وكانت زينب ابنة عمة النبي صلى الله عليه وسلم، بعد أن كانت زوجة زيد بن حارثة، فقال المشركون: إنه تزوج امرأة ابنه فأنزل الله تعالى: {وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءكُمْ أَبْنَاءكُمْ} [الأحزاب: 4] وقال: {لِكَىْ لاَ يَكُونَ عَلَى المؤمنين حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ} [الأحزاب: 37]
المسألة الثالثة: ظاهر قوله: {وحلائل أَبْنَائِكُمُ الذين مِنْ أصلابكم} لا يتناول حلائل الأبناء من الرضاعة، فلما قال في آخر الآية: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ} لزم من ظاهر الآيتين حل التزوج بأزواج الأبناء من الرضاع، إلا أنه عليه السلام قال: «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب» فاقتضى هذا تحريم التزوج بحليلة الابن من الرضاع لأن قوله: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ} يتناول الرضاع وغير الرضاع، فكان قوله: يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب أخص منه، فخصصوا عموم القرآن بخبر الواحد والله أعلم.
المسألة الرابعة: اتفقوا على أن حرمة التزوج بحليلة الابن تحصل بنفس العقد كما أن حرمة التزوج بحليلة الأب تحصل بنفس العقد، وذلك لأن عموم الآية يتناول حليلة الابن، سواء كانت مدخولا بها أو لم تكن.
أما ما روي ان ابن عباس سئل عن قوله: {وحلائل أَبْنَائِكُمُ الذين مِنْ أصلابكم} أنه تعالى لم يبين أن هذا الحكم مخصوص بما إذا دخل الابن بها. أو غير مخصوص بذلك، فقال ابن عباس: أبهموا ما أبهمه الله، فليس مراده من هذا الابهام كونها مجملة مشتبهة، بل المراد من هذا الابهام التأييد. ألا ترى أنه قال في السبعة المحرمة من جهة النسب: انها من المبهمات، أي من اللواتي تثبت حرمتهن على سبيل التأبيد، فكذا هاهنا، والله أعلم.
المسألة الخامسة: اتفقوا على أن هذه الآية تقتضي تحريم حليلة ولد الولد على الجَدّ، وهذا يدل على أن ولد الولد يطلق عليه أنه من صُلْب الجَدّ، وفيه دلالة على أن ولد الولد منسوب إلى الجد بالولادة.
النوع الثالث عشر: من المحرمات.
قوله تعالى: {وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الاختين إَلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ الله كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً} في الآية مسائل:
المسألة الأولى: قوله: {وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الاختين} في محل الرفع، لأن التقدير: حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم والجمع بين الأختين.
المسألة الثانية: الجمع بين الأختين يقع على ثلاثة أوجه: إما أن ينكحهما معا، أو يملكهما معاً، أو ينكح إحداهما ويملك الاخرى، أما الجمع بين الأختين في النكاح. فذلك يقع على وجهين:
أحدهما: أن يعقد عليهما جميعا، فالحكم هاهنا: إما الجمع، أو التعيين، أو التخيير، أو الابطال، أما الجمع فباطل بحكم هذه الآية هكذا قالوا، إلا أنه مشكل على أصل أبي حنيفة رضي الله عنه، لأن الحرمة لا تقتضي الابطال على قول أبي حنيفة، ألا ترى أن الجمع بين الطلقات حرام على قوله، ثم انه يقع، وكذا النهي عن بيع الدرهم بالدرهمين لم يمنع من انعقاد هذا العقد، وكذا القول في جميع المبايعات الفاسدة، فثبت أن الاستدلال بالنهي على الفساد لا يستقيم على قوله.
فان قالوا: وهذا يلزمكم أيضا لأن الطلاق في زمان الحيض وفي طهر جامعها فيه منهيٌ عنه، ثم انه يقع.
قلنا: بين الصورتين فرق دقيق لطيف ذكرناه في الخلافيات، فمن أراده فليطلب ذلك الكتاب، فثبت أن الجمع باطل.
وأما أن التعيين أيضا باطل، فلأن الترجيح من غير مرجح باطل، وأما أن التخيير أيضا باطل، فلأن القول بالتخيير يقتضي حصول العقد وبقاءه إلى أوان التعيين. وقد بينا بطلانه، فلم يبق إلا القول بفساد العقدين جميعا.
الصورة الثانية: من صور الجمع: وهي أن يتزوج إحداهما، ثم يتزوج الأخرى بعدها، فهاهنا يحكم ببطلان نكاح الثانية، لأن الدفع أسهل من الرفع، وأما الجمع بين الأختين بملك اليمين، أو بأن ينكح إحداهما ويشتري الأخرى، فقد اختلفت الصحابة فيه، فقال علي وعمر وابن مسعود وزيد بن ثابت وابن عمر: لا يجوز الجمع بينهما: والباقون جوزوا ذلك.
أما الأولون فقد احتجوا على قولهم بأن ظاهر الآية يقتضي تحريم الجمع بين الأختين مطلقا، فوجب أن يحرم الجمع بينهما على جميع الوجوه، وعن عثمان أنه قال: أحلتهما آية وحرمتهما آية، والتحليل أولى، فالآية الموجبة للتحليل هي قوله: {والمحصنات مِنَ النساء إِلاَّ مَا مَلَكْتَ أيمانكم} [النساء: 24] وقوله: {إِلاَّ على أزواجهم أَوْ مَا مَلَكَتْ أيمانهم} [المؤمنون: 6].
والجواب عنه من وجهين:
الأول: أن هذه الآيات دالة على تحريم الجمع أيضا، لأن المسلمين أجمعوا على أنه لا يجوز الجمع بين الأختين في حل الوطء، فنقول: لو جاز الجمع بينهما في الملك لجاز الجمع بينهما في الوطء لقوله تعالى: {والذين هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافظون * إِلاَّ على أزواجهم أَوْ مَا مَلَكَتْ أيمانهم} [المعارج: 29 30] لكنه لا يجوز الجمع بينهما في الملك، فثبت أن هذه الآية بأن تكون دالة على تحريم الجمع بينهما في الملك، أولى من أن تكون دالة على الجواز.
الوجه الثاني: إن سلمنا دلالتها على جواز الجمع، لكن نقول: الترجيح لجانب الحرمة، ويدل عليه وجوه:
الأول: قوله عليه الصلاة والسلام: «ما اجتمع الحرام والحلال إلا وغلب الحرام الحلال».
الثاني: أنه لا شك أن الاحتياط في جانب الترك فيجب، لقوله عليه الصلاة والسلام: «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك».
الثالث: أن مبنى الابضاع في الأصل على الحرمة، بدليل أنه إذا استوت الامارات في حصول العقد مع شرائطه وفي عدمه وجب القول بالحرمة، ولأن النكاح مشتمل على المنافع العظيمة، فلو كان خاليا عن جهة الاذلال والضرر، لوجب أن يكون مشروعا في حق الأمهات لأن إيصال النفع اليهن مندوب لقوله تعالى: {وبالوالدين إحسانا} [البقرة: 83] ولما كان ذلك محرما علمنا اشتماله على وجه الاذلال والمضارة، وإذا كان كذلك كان الأصل فيه هو الحرمة، والحل إنما ثبت بالعارض، وإذا ثبت هذا ظهر أن الرجحان لجانب الحرمة، فهذا هو تقرير مذهب علي رضي الله عنه في هذا الباب.
أما إذا أخذنا بالمذهب المشهور بين الفقهاء، وهو أنه يجوز الجمع بين أمتين أختين في ملك اليمين، فاذا وطئ إحداهما حرمت الثانية، ولا تزول هذه الحرمة ما لم يزل ملكه عن الأولى ببيع أو هبة أو عتق أو كتابة أو تزويج.
المسألة الثالثة: قال الشافعي رضي الله عنه: نكاح الأخت في عدة الأخت البائن جائز، وقال أبو حنيفة رحمة الله عليه: لا يجوز.
حجة الشافعي: أنه لم يوجد الجمع فوجب أن لا يحصل المنع، إنما قلنا: إنه لم يوجد الجمع لأن نكاح المطلقة زائل، بدليل أنه لا يجوز له وطؤها، ولو وطئها يلزمه الحد، وإنما قلنا: انه لما لم يوجد الجمع وجب أن لا يحصل المنع، لقوله تعالى بعد تقرير المحرمات: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ} [النساء: 24] ولا شبهة في انتفاء جميع تلك الموانع، إلا كونه جمعا بين أختين، فاذا ثبت بالدليل أن الجمع منتف وجب القول بالجواز.
فان قيل: النكاح باق من بعض الوجوه بدليل وجوب العدة ولزوم النفقة عليها.
قلنا: النكاح له حقيقة واحدة، والحقيقة الواحدة يمتنع كونها موجودة معدومة معا، بل لو انقسمت هذه الحقيقة الى نصفين حتى يكون أحدهما موجودا والآخر معدوما صح ذلك، أما إذا كانت الحقيقة الواحدة غير قابلة للتنصيف كان هذا القول فاسدا.
وأما وجوب العدة ولزوم النفقة، فاعلم أنه ان حصل النكاح حصلت القدرة على حبسها، وهذا لا ينتج أنه حصلت القدرة على حبسها للنكاح؛ لأن استثناء عين التالي لا ينتج، فبالجملة: فاثبات حق الحبس بعد زوال النكاح بطريق آخر معقول في الجملة، فاما القول ببقاء النكاح حال القول بعدمه، فذلك مما لا يقبله العقل، وتخريج أحكام الشرع على وفق العقول، أولى من حملها على ما يعرف بطلانها في بداهة العقول، والله أعلم.
المسألة الرابعة: قال الشافعي رحمة الله عليه: إذا أسلم الكافر وتحته أختان اختار أيتهما شاء وفارق الأخرى.
وقال أبو حنيفة رضي الله عنه: إن كان قد تزوج بهما دَفعةً واحدةً فرق بينه وبينهما، وان كان قد تزوج باحداهما أولا وبالأخرى ثانيا، اختار الأولى وفارق الثانية، واحتج أبو بكر الرازي لأبي حنيفة بقوله: {وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الاختين} قال: هذا خطاب عام فيتناول المؤمن والكافر، وإذا ثبت أنه تناول الكافر وجب أن يكون النكاح فاسدا، لأن النهي يدل على الفساد. فيقال له: انك بنيت هذا الاستدلال على أن الكفار مخاطبون بفروع الشرائع وعلى أن النهي يدل على الفساد، وأبو حنيفة لا يقول بواحد من هذين الأصلين، فان قال: فهما صحيحان على قولكم: فكان هذا الاستدلال لازما عليكم فنقول: قولنا: الكفار مخاطبون بفروع الشرائع لا نعني به في أحكام الدنيا، فانه ما دام كافرا لا يمكن تكليفه بفروع الاسلام، وإذا أسلم سقط عنه كل ما مضى بالاجماع، بل المراد منه أحكام الآخرة، وهو أن الكافر يعاقب بترك فروع الاسلام كما يعاقب على ترك الاسلام، إذا عرفت هذا فنقول: أجمعنا على أنه لو تزوج الكافر بغير ولي ولا شهود، أو تزوج بها على سبيل القهر، فبعد الاسلام يقر ذلك النكاح في حقه، فثبت أن الخطاب بفروع الشرائع لا يظهر أثره في الأحكام الدنيوية في حق الكافر، وحجة الشافعي: أن فيروزاً الديلمي أسلم على ثمان نسوة، فقال عليه الصلاة والسلام: «اختر أربعا وفارق سائرهن» خيره بينهن، وذلك ينافي ما ذكرتم من الترتيب والله أعلم.
المسألة الخامسة: قوله تعالى: {إَلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ} فيه الاشكال المشهور: وهو أن تقدير الآية حرمت عليكم أمهاتكم وكذا وكذا الا ما قد سلف، وهذا يقتضي استنثاء الماضي من المستقبل، وإنه لا يجوز، وجوابه بالوجوه المذكورة في قوله: {وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ ءابَاؤُكُمْ مّنَ النساء إِلاَّ مَا قَدْ مَا سَلَفَ} والمعنى أن ما مضى مغفور بدليل قوله: {إِنَّ الله كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً}؟
النوع الرابع عشر: من المحرمات.

3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10